العالم العربي لا يعيش فقط أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية،بل يعاني أيضا من أزمة ثقافية،فكل التقاريرالدولية ،تؤكد أن مؤشرات التنمية البشرية مستوياتها متدنية، فاشكالية التنمية ،تكمن بالاساس في نظم التعليم ومنهجيته وفلسفته ومقاصده،فعوامل النهوض والاقلاع الحضاري والثقافي ،لاتتم بمعزل عن التربية والتعليم والمعرفة ،فالمشكل القائم اذن مرتبط بمناهج التعليم وطرائق ، وسياسة التعليم،ومؤسسات التعليم ونوعية التعليم ، وأهداف التعليم .
والظاهرأن من تجليات وتمظهرات هاته الأزمة الثقافية ،غياب الابداع الحقيقي، والعزوف عن القراءة، سواء الورقية أو الالكترونية ،وكل الارقام والاحصائيات تؤكد. طبعا ،صحة هذا الطرح،فلاغرابة اذن ان ساد الاقصاءن واشتد التعصب، واستبد التطرف،فالعلم يبدأ بالقراءة ،وفي القراءة قوة ومعرفة ،وبالمعرفة ينفتح كل مغلق،ويسهل كل صعب.
والواقع أننا نعيش في زمن يتيح للكل امكانية التعلم الذاتي،والوصول الى المعلومات، وتنمية المعارف،وتوسيع الآفاق،والانفتاح على كل الحضارات والثقافات،ولحسن الحظ لم يعد الحصول على كتاب معين، هما كما كان في السابق، بل بات في متناول الجميع ،لكن المفارقة العجيبة، تكمن في عدم الاقبال والطلب عن هاته العروض المغرية، ففي الأرقام تكمن قصة الشعوب .
والحال أن القراءة تعتبر مفتاحا للتعلم الذاتي والجماعي ،والفعل القرائي يبقى حاجة وأولوية وضرورة اجتماعية وثقافية ونفسية، لتسهيل وتيسير الاندماج في المجتمع،ويساهم في ثقافة الفرد ،نظرا للاثر الذي ينتج عن هذا الفعل ،على المستوى المعرفي والوجداني والسيكولوجي المستدام.
ومن المعلوم أن الفعل القرائي يكسب الانسان القدرة على التأمل والتحليل ،وفهم ما يجري من أحداث ووقائع ،ليس فقط في المجتمع الذي ينتمي اليه ،بل في كل أنحاء العالم ،ويمكنه من ابداء آرائه في القضايا والملفات التي يتم الاختلاف حول تدبيرها، أو من حيث المقاربات العلاجية، والمرجعيات الايديولوجية والفكرية التي يتم تبنيها،ويربط الحاضر بالماضي لبناء المستقبل ، ويساعد على امتلاك الحس النقدي ويؤثر على الذوق والجمال،ثم يمدنا بأدوات وآليات للتمييز بين الجيد والرديء … ويقدم لنا الاجابات عن الهموم والانشغالات المعرفية، وعن كل الاشكاليات التي تشكل تحديا بالنسبة للانسان والمجتمع .
طبعا،سنحاول الاجابة عن هذا الهاجس والقلق المعرفي ،الذي يؤرق ويتعب كل المهتمين والباحثين والمفكرين في العالم العربي ،والذي يتجلى في ظاهرة العزوف عن القراءة، رغم كل ماهو متاح من امكانيات هائلة ووسائل ووسائط متعددة ،للحصول على كل ما يرغب فيه القارىء العربي، لتغذية فكره وروحه دون عناء أوجهد. فلماذا لا نقرأ ؟ الاجابة لاتحتاج الى بذل المزيد من الجهد والبحث ،فالكل يعي جيدا أن تفشي ظاهرة الأمية تحرم الصغار والكبارمن هذا الزاد المعرفي،بالتالي فهاته المعضلة تشكل عائقا للتنمية في هاته المجتمعات،هذا ناهيك عن ظروف القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي …ثم الادمان على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في الأمور التافهة، دون أن ننسى. طبعا ،التطور المادي والرغبة في تكديس الأموال ، وتحول النزعة الاستهلاكية، الى أسلوب حياة، وثقافة مفروضة من أجل التباهي والافتخار…
والأكيد أن ظاهرة العزوف عن القراءة تحتاج الى حلول جذرية ،بداية من مدرسة الآباء،وتدخل باقي الأطراف التي لها علاقة مباشرة بهاته القضية المعرفية،فالوزارة المعنية بشؤون التربية والتعليم،ينبغي أن تعيد النظرفي الأساليب والوسائل والمناهج التربوية ،لرسم سياسات واضحة للقراءة والمطالعة التي تبني شخصية الانسان، وتجعله مواطنا صالحا،قادراعلى الاندماج في مجتمعه، ومساهما في التنمية من خلال اجتهاده وعطائه وانتاجه.هذا المطمح لن يتأتى. طبعا،بدون استراتيجية أو خطة عمل على صعيد المؤسسة التعليمية ،بالزام كل متعلم على قراءة مجموعة من الكتب المحددة سلفا ،والتي تراعي بطبيعة الحال نموه المعرفي والوجداني والاجتماعي ،من المرحلة الاساسية الى الحياة الجامعية ،وتحقيق هذا الشرط ،يخول له الانتقال الى المستوى اللاحق،على أساس أن تحترم ذكاءاته وميولاته ورغباته،بتخصيص زمن كافي في اطار المنهاج الدراسي،وتصوروا معي كمن كتاب سيقرأ من قبل الطلبة، خلال كل المراحل التعليمية . فالثقافة تزداد وتنمووتتطور،وتجدر الاشارة الى أن للقراءة تقنيات، تساعد على التركيز والفهم والاستيعاب الجيد،لكن المجال لايسع لذكرها ،وعلى العموم هي أدوات بسيطة للغاية، يتمكن منها القارىء عن طريق االممارسة اليومية، والتعوذ ،دون أن ننسى التشجيع على النقاش والحواروالانصات وتبادل الأفكاروالكتابة والتأليف ،لأنها مرتبطة بالقراءة،فلا يمكن أن نتصوركاتبا جيدا بدون قراءة .
وفي هذا الصدد نتساءل لماذا تنفق الملايير لمحاربة الهدر المدرسي دون جدوى،وتشجيع الفتاة في الأرياف على التمدرس، بدل أن يتم تزويد كل المؤسسات بمجموعة من الكتب الجيدة والوسائل الضرورية وتوفير البنيات اللازمة ؟
ومن المفروض أن تعمل الوزارةالمعنية بالشأن الثقافي، على وضع خطة موازية ومكملة وداعمة لما سيتم تفعيله على مستوى المؤسسة التعليمية ،ورصد ميزانية محترمة ،لمجال القراءة ،بهدف تشجيع المكتبات الخاصة، وتفعيل دور الأندية الثقافية، والعمل على مضاعفة معارض الكتب ،وتزويد المكتبات العمومية بالكتب ،وتوفيرالبنيات التحتية اللازمة، لاستفادة الجميع ،ودعم المؤسسات الخاصة للثقافة ،ودعم نشاط التأليف من خلال الترجمة،ودعم الكتاب انتاجا ونشرا وترويجا ،وايجاد الصيغ الملائمة لتذويب الخلافات، والحد من بعض أسباب التوتر بين المؤلف والناشروالطابع والموزع والتي ستبقى في جوهرها قضية مادية.
ويأتي دور الاعلام كأداة مهمة في تسليط الضوء،على الاهتمام بتقديم الكتب الجيدة والرصينة والمؤثرة والفاعلة في الذات والمجتمع ،والتنبيه الى منع نشر االكتب ،التي تدعوالى التطرف والغلو و التعصب والكراهية والبدع ،تحت غطاء التدين لخدمة طائفة أوجهة معينة .
ومن المؤسف أن نجد في بعض معارض الكتب في هاته المجتمعات العربية اقبالا على كتب تفسير الأحلام والأبراج والسحر والشعودة وأهوال الدين…كتب تتصدر قائمة المبيعات .فأين هي الأطروحات الانسانية والمجتمعية للارتقاء بالانسان العربي ؟ وهذا اشكال قائم ومطروح نعاني منه جميعا ويدعوا الى مزيد من الحذر والحيطة ،والوقوف ضد كل المحاولات، التي تراهن على طمس الهوية الثقافية العربية، وتشويه الدين وتحريف مساره، وضرب القيم المجتمعية والانسانية ، لأهداف سياسية من أجل الوصول الى السلطة ،أو لأغراض تجارية،أو طائفية أو مذهبية أو عرقية … والعمل على احباط كل المحاولات لبعض المؤسسات والمراكز، التي تشجع التفاهات والترهات،ليس فقط فيما يقرأ، بل في المسرح والسينيما والغناء وباقي الفنون الأخرى …هذا علاوة على تلك التصورات والاعتقادات الخاطئة التي يؤمن بها الكثيرون والتي ترسخت في أذهانهم نتيجة لللاوعي ،وعدم ادراكهم لخبايا الأمور،فهاته الفئة بالذات تقوم برفض كل العروض، وبتسخيف كل المبادرات والاجتهادات، التي تبدو فيها حالة من الاشراق،وتسفيه كل ما ينتج وينشر يوميا، على مستوى الصحف الورقية والمجلات والكتب، رغم جودتها وتميزها وتأثيرها في نشر الوعي،وتنمية المعارف، وتشكيل الرأي العام، والمساهمة في عملية التثقيف،وبناء مجتمع المعرفة .
العديد من المهتمين بالشأن الثقافي في وقتنا الراهن، يتحدثون عن الأمية الثقافية ،وتعني بشكل مبسط رؤية العالم في اطاراختصاص أكاديمي معين،فالمختص ينظر الى الحياة من زاوية واحدة ،فيشعر بالاكتفاء،ويمكن تشبيه هذا الأمربمن ينظرالى ورقة الشجرة، ولايرى الغابة،وهذا يؤدي الى كسل معرفي ،فالثقافة الشاملة والمتنوعة لا يجنيها المختص، الا من خلال قراءة الكتب، والانفتاح على باقي العلوم الأخرى ،ومجالات الثقافة الانسانية العامة، وقضاياها المتعددة، والشاملة المتصلة بالانسان والمجتمع .
ومن المؤكد أن اكساب عادات القراءة، لتصبح ثقافة راسخة ومتجذرة في ذهن وسلوك القارىء هو مشروع ينطلق من المؤسسة التعليمية ،بتزويد المعرفة المباشرة، التي تكسب المعارف وتنمي المهارات والقدرات،وبالمقابل تفتح آفاق أخرى، من خلال معرفة غير ممنهجة، عن طريق القراءة الحرة ،التي لا تقيد بزمن ،والهدف الأسمى .طبعا ،هو تسريع نمو الفكر ،وتكبير وتمديد العمر الفكري لعشرات السنين .
والمعرفة عموما لاتكتمل ،ومتعة القراءة لا تنتهي ،فهي مستمرة دائما وفضاءاتها متعددة، تلزم فقط الرغبة والقابلية والدافعية. لكننا نتساءل هل سيتجه العالم العربي الى مشهد تقل فيه الخطب والكلمات وتكثر فيه القراءات والكتابات ؟ وهل القارىء العربي الحقيقي هو الذي يعيش هاجس وقلق المعرفة ؟وهل الفعل القرائي مرتبط فقط بالنخبة ؟ وما المانع من مساهمة الأساتذة الجامعيون في هذا الحراك الثقافي، من خلال اسهامات وانتاجات فكرية قيمة ، يخصص لها الجهد والزمن الكافيين، بدل جمع الدروس في كتب وبيعها للطلبة ؟
محمد أبوالمهدي : كاتب رأي